ذات تاريخ، وقف صناديد قريش بالمرصاد لأصحاب الديانة الجديدة، وناصبوا أهلها العداء، ودافعوا عن إرثهم الخرائي وهم يحسبون أنهم مهتدون.
ولو أنهم راجعوا تلك الأفكار الوثنية البالية ووضعوا معتقدات آبائهم التافهة تحت مجهر المنطق أو العقل، لما وقفوا أمام بيت محمد الذي أراد لهم الخير في الدنيا والآخرة وقد لمعت سيوفهم وصدأت عقولهم دفاعا عن عقيدة آباء لا أفهام لهم ولا وعي ولا بصيرة.
فاحذر يا صديقي وأنت تستل سيفك، وتقف أمام بيت أخيك لتقتل فكره أن تكون واحدا من صناديد الجهالة وأنت لا تدري. ولا تأخذنك العزة بالإثم، فترفع عقيرتك وتنفخ أوداجك، وأنت تنافح عن منطق الآخرين أو خرائهم المقدس وتظن أنك على شيء.
فداخل الأضرحة المقدسة، قد لا يجد المتبركون والمتمسحون وزوار العتبات إلا غائط كلب أو فأرة ولود. وساعتها سيضحكون ضحكا كالبكا كما فعل عمر ذات وعي، حين تذكر كيف كان يسجد لصنم من عجوة، فإذا جاع أكله.
ولا تندهش يا صديقي إن رأيت نفسك في موقف كهذا، ففي الإمبراطورية الفرنسية نفسها، وفي أوج عظمتها، كان الناس يعظمون خراء غير مقدس في حروب غير مقدسة ويحسبون أنهم مهتدون.
حدث ذلك عام 1917، وتحديدا في مدينة بورج التي اتخذها الجنرال جورج باتون مقرا لقيادة فرقته المدرعة.
فبعد مغادرة فرقته للمدينة بيوم واحد، زاره عمدتها باكيا معاتبا، لأن جورج لم يخبره أن أحد جنوده قد لقي نحبه هناك. وأراد باتون، الذي كان يعلم يقينا أنه لم يكن هناك إصابات بين جنوده، أن يستيقن الخبر، فذهب مع عمدة بورج إلى مقر القيادة الأسبق، فوجد الرجل يشير بيده متحسرا إلى حفرة بطول مترين وهو لا يستطيع أن يحبس دمعه.
أما الحفرة التي بكي على أطلالها عمدة المدينة، فلم تكن سوى كنيف يلقي فيها الجنود فضلاتهم كل يوم، فلما أرادوا أن يغادروا المكان، ردموه. ووضع آخر جندي استعمل المرحاض المتنقل علامة صليب هناك، وكتب فوق لوح خشبي عند رأس الكنيف “مؤخرة مهجورة”.
لم يرد جورج باتون أن يحرج عمدة المدينة وأن يسفه جنديه المجهول، فتركه على عقيدته الخرائية البالية، كما ترك هارون قومه ذات ضلال ليعبدوا عجلهم الذهبي حتي يعود موسى بألواحه.
الغريب أن باتون عاد بألواحه إلى مدينة بورج بعد سبعة عشر عاما، ليجد الناس يتحلقون حول “المؤخرة المهجورة” لإلقاء الورود والأدعية، وممارسة واجباتهم الوطنية المقدسة.
كان باستطاعة باتون أن يئد الخرافة في مهدها وأن يغطي أنفه وأنف مضيفه وهو يطلعه على حقيقة جنديه المجهول، لكنه أدرك كما أدرك هارون من قبل أنه لم يعد يستطيع مواجهة فكرة قد تحولت إلى عقيدة تملكت من أقوام لهم آذان لا يسمعون بها، ولهم قلوب لا يفقهون بها.
ما حيلة هارون وقد رأى قوما لم يصبروا على نبيهم أربعين ليلة، فاستبدلوا إلههم بعجل له خوار؟ وما حيلة باتون، وقد رأي القوم يقدسون خراء جنودهم غير المقدس ويتبركون بأفكار عمدتهم الفاسدة،
ويقدمون فروض الانتماء لمؤخرة مهجورة؟
آفة الجهلاء التعصب للفكرة، وازدراء كل من تسول له نفسه أن يفكر بشكل مختلف، فترى الواحد منهم يحارب دفاعا عن رأيه، وكأن رأيه وطن.
ويرى انتصار فكر أحدهم على فكره هزيمة شخصية له، فلا يراجع معتقداته وإن بلت، ولا يفكر في حجة أخيه وإن كانت أوضح وأجلى.
وفي مجتمعات يتعصب فيها المرء لرأيه ورأي آله وذويه وفرقته وجماعته الدينية أو الفكرية أو السياسية، تجد المفكرين والحكماء أشد الناس انسحابا، واكثرهم انعزالية.
فهم بين خيارين، إما أن يواجهوا الناس بفساد عقائدهم ومعتقداتهم،
فيقتلون كيحيى، أو يرفعون كعيسى أو يطردون كمحمد.
أو يقفوا على أعتاب خراء الآخرين المقدس وهم يكتمون ضحكاتهم خشية أن يفتك بهم زوار العتبات المدنسة.